إن من يستشكل ذلك: يجب أولا أن يكون عنده تصور عن طبيعة الحياة في ذلك العصر ، ومدى التنوع الحيواني وأماكن انتشار الحيوانات... الخ ، وهذا كله لا نملك عنه معلومات قاطعة وهي واقعة خارج التاريخ المعلوم للإنسان ، فالله وحده أعلم به. رابعاً: أما كيف كان في بلاد كذا من الحيوان ما لا يوجد في غيره ؟ وكيف توجه حيوان كذا إلى بلد ، دون غيره... ؟ فجوابه سهل ميسور ؛ ألم تعلم أن الله تعالى خلق كل كائن حي ، وهداه إلى منافعه وما يصلح شأنه ؟! فاستمع ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الحوار الذي دار بين نبي الله موسى ، وعدو الله الجاحد: فرعون: ( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) طه/49-56.
ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم: ( 130293). والقرآن الكريم لم يخبر أن جميع الحيوانات التي كانت على ظهر الأرض يومئذ ، كانت معه في السفينة ، وإنما كان معه من كل صنف منها زوجان اثنان. قال الله تعالى: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) هود/40. قال الشوكاني رحمه الله - في تفسير هذه الآية -: " أي: قلنا يا نوح ، احمل في السفينة من كلّ زوجين ، مما في الأرض من الحيوانات: اثنين ؛ ذكرا ، وأنثى " انتهى من " فتح القدير " (2/ 565). فنوح عليه السلام لم يحمل جميع الحيوانات ، وإنما حمل من كل نوع منها اثنين ، ذكرا وأنثى ؛ ليحصل التوالد والنسل منهما بعد ذلك. والحيوانات الكبيرة الحجم ليست بالكثيرة جدا في عالم الحيوان ، وعدد مثل هذا لا يحتاج إلى سفينة تصل إلى مئات الكيلومترات كما ذكر في السؤال. ثم من قال ، وبأي دليل يقول: إن جميع الحيوانات التي يعرفها الناس اليوم ، الكبير منها والصغير ، كانت موجودة على ظهر الأرض في زمن الطوفان ، ليركب من كل من صنف منها: زوجان في تلك السفينة ، التي يفترض أنها لن تسع ذلك كله ؟! وبأي دليل يمنع المانع من أن يكون الله تعالى قد خلق من الكائنات الحية ، ما خلق ، وأوجدها على ظهر الأرض ، بعد زمن الطوفان ، لا قبله ؟!
2- للتدليل على أن هذا القرآن من الله تعالى المحيط بكل شيء علما ، والعالم بما كان وبما سيكون ، كما قال الله تعالى بعد ذكره لقصة نوح عليه السلام: ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) هود / 49. فالقرآن يذكر من الحادثة ما يحقق المقصود الدعوي والإيماني منها ، كما نرى في قصة نوح عليه السلام مع قومه ، فقد كان التركيز على جهد نوح في دعوته ، وبيان مدى إعراض قومه عن الحق ، ثم بيّن الله العقاب الذي لحق هؤلاء القوم المعرضين عن الحق ، وذكر لنا من صفات هذا العقاب ما نستطيع أن نأخذ منه صورة عامة لهوله ، أما باقي تفصيلاته التي لا تفيدنا فلم يتعرض لها القرآن. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: " ففي القرآن الكريم أشياء كثيرة لم يبيِّنها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه. وكثيرٌ من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نُعرض عن مثل ذلك دائماً ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه " انتهى من " أضواء البيان " (4/58).
بناء قريش للكعبة المشرفة اتخذت قريش قراراً بهدم الكعبة المشرفة، لإعادة بنائها من جديد، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كل قبيلة في قريش شاركت في بناء الكعبة؛ حيث إنّ كل قبيلة جمعت الحجارة؛ كلاً على حدة، حتى بنوها فبلغوا موضع الركن اختصموا فيه، لأنّ كل قبيلة أرادت أن ترفعه إلى مكانه دون الأخرى، مما تسبب في نشوب العداوات بينهم، وقد تشاوروا فيما بينهم فاتخذوا قراراً بأن أول من يدخل الباب يقضي بينهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من دخل الباب، فقالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما أخبروه بالأمر قال: (هلمَّ إليَّ ثوبًا، فأُتِي به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثمَّ قال: لتأخذ كلُّ قبيلة بناحية مِن الثَّوب، ثمَّ ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثمَّ بنى عليه) [حديث صحيح]. أهم خصائص بناء قريش للكعبة زادوا على ارتفاع الكعبة، حيث بلغت 432 سم. بنوا للكعبة سقفاً، وجعلوا لها مزراباً لتصريف مياه الأمطار، والمياه التي تغسل بها سطح الكعبة. زادوا ارتفاع الباب الشرقي من أرض المطاف، وسدوا الباب الخلفي منها. أخرجوا ثلاثة أمتار من الكعبة من الناحية الشمالية "حجر إسماعيل"، وذلك بسبب عدم توفر المال الكافي لبنائها على قواعد إبراهيم.
الكعبة تعتبر الكعبة القبلة التي يحج إليها الناس والملائكة والأنبياء، منذ زمن بعيد، وهي بذلك أقدم بيت وضعه الله للناس، وشرف الله هذا البيت بأن جعل عدد من العبادات لا تصح إلا باستقبالها كالصلوات، وذبح الأنعام، ودفن الميت، ولا بدّ من الإشارة إلى أن الكعبة المشرفة وردت في القرآن الكريم بأسماء عدة منها: قادس، والقرية القديمة، وناذر. متى بنيت الكعبة تعتبر الكعبة هي أول مبنى بُني على وجه الأرض، وهي أقدم من وجود الإنسان على وجه الأرض، ولكن طوفان نبي الله نوح عليه السلام تسبب في هدمها، وبعد الطوفان بناها النبي إبراهيم مع ابنه اسماعيل عليهما السلام بعد أن أوحى الله إلى إبراهيم بمكان البيت؛ قال تعالى: (بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26]، ونزل إبراهيم عليه السلام مع عائلته الصغيرة المكونة من زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام إلى مكة المكرمة؛ حيث كانت واد مجدب لا أنيس فيه، فتركها إبراهيم في هذا الواي مع ابنها الرضيع كما أمره الله عزّ وجلّ، وترك معها سقاءً فيه ماءً وبعض التمر، فلما نفذ الماء، انطلقت تبحث عنه، من جبل الصفا إلى جبل المروة، وكررت ذلك سبع مرات، وعندما وصلت إلى المروة، سمعت صوتاً، فإذا بئر زمزم تخرج منه المياه، فغرفت منه، وشربت، وبقي إسماعيل في مكة المكرمة حتى كبر وترعرع فيها، فلبث عنهم إبراهيم عنهم ما شاء الله، ولما عاد إليهم كانت هاجر متوفيّة، فقال: يا إسماعيل، إنّ الله أمرني بأمر، فقال له إسماعيل: اصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: أعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ها هنا، وقد أشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعندها رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، وهما يبنيان ويقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [البقرة: 127].
فتأمل كيف دله موسى عليه السلام إلى أن الله جمع بين خلق الخلق ، وبين هدايته لما ينفعه ويصلح له شأنه. وتأمل ، كيف دله ونبهه على آيات الخلق والإعادة بما حوله من أمر الكون ، والخلق ، والحياة والموت ، وتمهيد الأرض ، وإحيائها بالمطر ، ونبات الزرع منها!! قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: " أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، الدال على حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره وتوسطه ، وجميع صفاته ، ( ثُمَّ هَدَى) كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات ، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل ، ما يتمكن به من ذلك " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " (ص/590). ثم إن في عالمنا المشاهد اليوم بعض الحيوانات تهاجر المسافات الطويلة وتعود إلى أماكنها ولا تخطئها ، وبدراسة قريبة الغور لعالم الأسماك ، وعالم الطيور ، وعالم الحيوان كله: تقف من ذلك على ما يذهل العقل ، ويحير اللبيب ، ويدل الفطن على قدرة اللطيف الخبير!! كيف تتعرف هذه الحيوانات على الطريق الصحيح لرحلاتها ، وكيف تنتبه للتوقيت المناسب للرحلة ؛ وكيف ، وكيف ؟!
الباحثون حاولوا الإجابة على هذه الأسئلة ؟ لكنّ الله أعطانا الجواب من قبل فقال تعالى: ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه/50. ونعود ونذكر بما قلناه سابقا: من أدرانا أن الله لم يخلق ما شاء من خلقه ، في زمان معين ، ومكان معين: ابتداء ؟! ومن أين لنا العلم أن الله تعالى كان قد خلق جميع الكائنات الحية ، قبل طوفان نوح عليه السلام ؟! ثمّ هذه القصة التي أشكلت عليك ، هي نفسها من الأدلة الواضحة على عظمة القرآن وأنه منزّل من الله تعالى ، وليس من قول البشر ، راجع مثلا كتاب موريس بوكاي " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم " وكلامه عن موضوع الطوفان في القرآن الكريم. والله أعلم.
aetycacademy.net, 2024 | Sitemap